فصل: تفسير الآيات (36- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (36- 40):

قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أنْ يُتْرك سُدى (36) ألمْ يكُ نُطْفة مِنْ منِيٍّ يُمْنى (37) ثُمّ كان علقة فخلق فسوّى (38) فجعل مِنْهُ الزّوْجيْنِ الذّكر والْأُنْثى (39) أليْس ذلِك بِقادِرٍ على أنْ يُحْيِي الْموْتى (40)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا فعل من أعرض عن الله أصلا فلم يخطر شيئا من عظمته على باله، فكان ظانا أنه مهمل لا مالك له وأنه هو السيد لا عبودية عليه، فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعمل إلا بمقتضى شهواته، قال منكرا عليه معبرا بالحسبان الذي الحامل عليه نقص العقل: {أيحسب} أي أيجوز لقلة علقه {الإنسان} أي الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى في نفسه وأبناء جنسه.
ولما كان الحامل على الجراءة مطلق الترك هملا، لا كون الترك من معين، قال بانيا للمفعول: {أن يترك} أي يكون تركه بالكلية {سدى} أي مهملا لاعبا لاهيا لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما أسدى إليه، فإن ذلك منافٍ للحكمة، فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوي والجزاء على كل منهما، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء، فاقتضت الحكمة ولابد البعث للجزاء.
ولما كان الإنسان يجري على ما في طبعه من النقائص فيغفل عما خلق له فتتراكم عليه ظلماته فيبعد عن علم ذلك إما بجهل بالحكمة أو بجهل بالقدرة، رحمه سبحانه بإعادة البرهان على المعاد بأمر يجمع القدرة والحكمة، وذلك أنه لا يجوز في عقل عاقل أن صانعا يصنع شيئا ويتركه ضياعا وهو حكيم أو حاكم فكيف بأحكم الحكماء والحاكمين فقال منكرا عليه ظنه أنه يهمله سبحانه مع علمه بصنائعه المحكمة فيه، مقررا أحوال بدايته التي لا يسوغ معها إنكار إعادته لأنها أدل على أنه لا مانع منها أصلا، حاذفا نون الكون إعلاما بأن الأمر في هذه النتيجة العظمى ضاق عن أقل شيء يمكن الاستغناء عنه كراهية التمادي من الموعوظ على ما وعظ لأجله فيحصل له الهلاك، وإشارة إلى مهانة أصله وحقارته: {ألم يك} أي الإنسان {نطفة} أي شيئا يسيرا جدا {من مني} أي ماء من صلب الرجل وترائب المرأة مقصود ومقدر من الله للابتلاء والاختبار مثاله المنية التي هي الموت {تمنى} أي سبب الله للإنسان المعالجة في إخراجها بما ركب فيه من الشهوة وجعل له من الروح التي يسرها لقضاء وطره منها حتى أن وقت صبها في الرحم انصبت منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلا، ولذلك بنى الفعل لما لم يسم فاعله، ولما كان تكثير تلك النطفة وتحويلها أمرا عظيما عجيبا، أشار إليه بأداة البعد مع إفادتها للتراخي في الزمان أيضا فقال: {ثم كان} أي كونا محكما {علقة} أي دما أحمر عبيطا شديد الحمرة والغلظة {فخلق} أي قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه {فسوى} أي عدل عن ذلك خلقا آخر غاية التعديل شخصا مستقلا.
ولما كان استبعادهم للقيامة إما لاستبعاد القدرة على إعادة الأجزاء بعد تفرقها أو لاستبعاد القدرة على تمييز ترابها من تراب الأرض بعد الاختلاط، وكان تمييز النطفة إلى ذكر وأنثى كافيا في رد الاستبعادين قال: {فجعل} أي بسبب النطفة {منه} أي هذا الماء الدافق أو المخلوق المسوى وهما شيء واحد {الزوجين} أي القرينين اللذين لا يمكن الانتفاع بأحدهما إلا بالآخر، ثم بينهما بقوله: {الذكر والأنثى} وهما كما تعلمون متباينان في الطباع مختلفان في أوصاف الأعضاء والآلات والمتاع، كما لم يترك النطفة حتى صيرها علقة ولا ترك العلقة حتى صيرها مضغة ولا ترك المضغة حتى صيرها عظاما ولم يترك العظام حتى صيرها خلقا آخر إلى تمام الخلقة لتمام الحكمة الظاهرة وفصلها إلى ذكر وأنثى وهي ماء، تمييز ما يصلح منه للذكر وما يصلح منه للأنثى أشد وأخفى من تمييز تراب الميت من تراب الأرض، فكذلك لا يترك الجسم بعد موته حتى يعيده ثم يبعثه إلى آخر ذلك لتمام الحكمة الباطنة وهي الجزاء والحكم الذي هو خاصة الملك.
ولما تقرر من حيث إتقان الاصطناع أنه لا يجوز معه الإهمال وانقطاع النزاع، وكان ربما توقف من حيث ظن عدم القدرة على ذلك بعد الموت، قال منبها على تمام القدرة مقررا عليه منكرا على من يتوقف فيه موبخا له مرتبا على ما قام على القدرة على الإعادة من دليل القدرة الشهودي على البداية: {أليس ذلك} أي الخالق المسوي الإله الأعظم الذي قدر على هذه الإنشاءات وصنع هذه الصنائع المتقنة التي لا يقدر غيره على شيء منها، وأعرق في النفي فقال: {بقادر} أي عظيم القدرة {على أن يحيي} أي كيف أراد دفعة أو في أوقات متعاقبة {الموتى} فيقيم القيامة بل وعزته وجلاله وعظمته وكماله إنه على كل ما يريد قدير، وقد رجع آخر السورة على أولها أتم رجوع، والتأم به أتم التئام، فتمت معانيها أعظم تمام بجمع العظام وإيجاد القيام ليوم التغابن والزحام- أعاننا الله فيه بحسب الختام، روى البغوي بسنده من طريق أبي داود عن أعرابي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم {والتين والزيتون} [التين: 1] فانتهى إلى آخرها {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8] فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ {لا أقسم بيوم القيامة} [القيامة: 1] فانتهى إلى قوله: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} [القيامة: 40] فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فقرأ {فبأي حديث بعده يؤمنون} [المرسلات: 50] فليقل: آمنا بالله» ورواه الترمذي وقال في آخر القيامة أن يحيي الموتى: «بلى وعزة ربنا» وقال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد: وروى أحمد وفيه رجلان لم أعرفهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ: {والمرسلات عرفا... فبأي حديث بعده يؤمنون}، ومن قرأ: {والتين والزيتون}، فليقل: وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}، فليقل بلى». والله الهادي للصواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أيحسب الإنسان أنْ يُتْرك سُدى (36)} أي مهملا لا يؤمر، ولا ينهى، ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب بعمله في الآخرة، والسدى في اللغة المهمل يقال: أسديت إبلي إسداء أهملتها.
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة، قوله: {أيحسب الإنسان ألّن نّجْمع عظامه} [القيامة: 3] أعاد في آخر السورة ذلك، وذكر في صحة البعث والقيامة دليلين الأول: قوله: {أيحسب الإنسان أن يُتْرك سُدى} [القيامة: 36] ونظيره قوله: {إِنّ الساعة ءاتِيةٌ أكادُ أُخْفِيها لتجزى كُلُّ نفْسٍ بِما تسعى} [طه: 15] وقوله: {أمْ نجْعلُ الذين ءامنُواْ وعمِلُواْ الصالحات كالمفسدين في الأرض أمْ نجْعلُ المتقين كالفجار} [ص: 28] وتقريره أن إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضيا بقبائح الأفعال، وذلك لا يليق بحكمته، فإذا لابد من التكليف والتكليف لا يحسن ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة.
الدليل الثاني: على صحة القول بالحشر الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة، وهو المراد من قوله تعالى: {ألمْ يكُ نُطْفة مِنْ منِيٍّ يُمْنى (37)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
النطفة هي الماء القليل وجمعها نطاف ونطف، يقول: ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة؟ وقوله: {مّن مّنِىّ يمنى} أي يصب في الرحم، وذكرنا الكلام في يمنى عند قوله: {مِن نُّطْفةٍ إِذا تمنى} [النجم: 46] وقوله: {أفرءيْتُمْ مّا تُمْنُون} [الواقعة: 58] فإن قيل: ما الفائدة في يمنى في قوله: {مّن مّنِىّ يمنى}؟ قلنا: فيه إشارة إلى حقارة حاله، كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي جرى على مخرج النجاسة، فلا يليق بمثل هذا الشيء أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى، على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى ومريم: {كانا يأْكُلانِ الطعام} [المائدة: 75] والمراد منه قضاء الحاجة.
المسألة الثانية:
في يمنى في هذه السورة قراءتان التاء والياء، فالتاء للنطفة، على تقدير ألم يك نطفة تمنى من المني، والياء للمني من مني يمنى، أي يقدر خلق الإنسان منه.
قوله تعالى: {ثُمّ كان علقة} أي الإنسان كان علقة بعد النطفة.
أما قوله تعالى: {فخلق فسوى} ففيه وجهان الأول: فخلق فقدر فسوى فعدل الثاني: فخلق، أي فنفخ فيه الروح، فسوى فكمل أعضاءه، وهو قول ابن عباس ومقاتل.
ثم قال تعالى: {فجعل مِنْهُ} أي من الإنسان {الزوجين} يعني الصنفين.
ثم فسرهما فقال: {الذكر والأنثى أليْس ذلِك بقادر على أن يُحْيِى الموتى} والمعنى أليس ذلك الذي أنشأ هذه الأشياء بقادر على الإعادة، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «سبحانك بلى» والحمد لله رب العالمين.
وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أيحسب الإنسان} أي يظن ابن آدم {أن يُتْرك سُدى} أي أن يُخلّى مُهملا، فلا يُؤمر ولا يُنهى؛ قاله ابن زيد ومجاهد، ومنه إبل سُدى: ترعى بلا راعٍ.
وقيل: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يُبعث.
وقال الشاعر:
فأُقسِمُ بالله جهد اليمِينِ ** ما ترك الله شيئا سُدى

قوله تعالى: {ألمْ يكُ نُطْفة مِّن مّنِيٍّ يمنى} أي من قطرة ماء تُمنى في الرّحِم، أي تُراق فيه؛ ولذلك سمّيت (مِنى) لإراقة الدماء.
وقد تقدّم.
والنطفة: الماء القليل؛ يقال: نطف الماء: إذا قطر.
أي ألم يك ماء قليلا في صُلْب الرجل وترائب المرأة.
وقرأ حفص {مِن منِيّ يُمْنى} بالياء، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعيّاش عن أبي عمرو، واختاره أبو عبيد لأجل المنيّ.
الباقون بالتاء لأجل النطفة.
واختاره أبو حاتم.
{ثُمّ كان علقة} أي دما بعد النطفة، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خِسّة قدره.
ثم قال: {فخلق} أي فقدّر {فسوى} أي فسوّاه تسوية، وعدّله تعديلا، يجعل الروح فيه {فجعل مِنْهُ} أي من الإنسان.
وقيل: من المنيّ.
{الزوجين الذكر والأنثى} أي الرجل والمرأة.
وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخُنثى.
وقد مضى في سورة (الشورى) أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب.
وقد مضى في أوّل سورة (النساء) أيضا القول فيه، وذكرنا في آية المواريث حكمه، فلا معنى لإعادته {أليْس ذلِك بِقادِرٍ} أي أليس الذي قدر على خلق هذه النّسمة من قطرة من ماء {بِقادِرٍ على أن يُحْيِي الموتى} أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البِلى.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها قال: «سبحانك اللّهم، بلى» وقال ابن عباس: من قرأ {سبِّحِ اسم ربِّك الأعلى} [الأعلى: 1] إماما كان أو غيره فليقل: «سبحان ربِّي الأعْلى».
ومن قرأ {لا أُقْسِمُ بِيوْمِ القيامة} إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل: «سبحانك اللّهُمّ، بلى» ذكره الثعلبيّ من حديث أبي إسحاق السّبِيعيّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
ختمت السورة والحمد لله. اهـ.